قرية وشتاء- حلاقة قمل، وكرم ضيافة، ونطحة ثور مُفجعة
المؤلف: علي بن محمد الرباعي10.29.2025

حلّ فصل الشتاء ضيفاً مبكراً على القرية، وأغلب أهلها قد استعدوا لمواجهة الصقيع الذي سيمتد لأشهر طويلة. استثمر بعضهم موسم الخريف في تكديس الحطب في "الشقيق"، وتوفير العلف للحيوانات في "السفل". فإذا كانت "الخصفة" ممتلئة بالقمح، و"عكة السمن" تفيض بخيرها، و"عدلة التمر" منصوبة في مكانها، كان صاحبها يترنم بأجمل الألحان، والمؤونة في البيت تكفي لسد الحاجة، وتمنحهم اكتفاء ذاتياً طيلة الموسم، لكن الشتاء بطبيعته يحمل معه بعض الشح، فبعضهم يتمنى حساءً دافئاً يسد به رمقه لكنه لا يجده.
في صباح يوم خميس مشرق، طلب الفقيه "يحسّن" ليحلق رأس "طينان". أمر الأب ابنه الأكبر "غبران" أن يحلق رأس أخيه "طينان" قبل وصول الفقيه، وأمره بالإسراع؛ لأن موسى الفقيه حادة. قبل أن يضع "غبران" مسحوق التنظيف على رأسه، بلله بالماء. انفجر "طينان" بالبكاء، تارة يتعلل بألم رقبته التي ضغط عليها أخوه ليثبته، وتارة بسبب الصابون الذي أحرق عينيه. توسلت الأم إلى الأب أن يترك شعر "طينان" ليحميه من البرد، لكنه لم يعرها اهتماماً، واعتلى طرف عتبة الدرجة، وأمسك بخريطة التنباك، وبدأ بتنظيفها.
أقبل الفقيه وقد شمّر عن ساعديه، فهو لم يكن فقيهاً فحسب، بل كان أيضاً حلاقاً ومطهراً، وقد نال احتراماً ومكانة بين الناس. بعد أن مرر الموسى على الشعر الكثيف، قال: "ما أكثر الرعية في رأس ولدك، وكأنه أرض خصبة للزرع!" ثم أضاف: "أين أمه عنه؟ لماذا لا تمشط شعره وتزيل عنه القمل؟" رد الأب: "ماذا ستمشط وماذا ستترك؟ كل قملة في رأس الولد أصبحت عشيرة تتكاثر باستمرار، فربك يبارك في كل شيء."
طلب الفقيه من الأخ الأكبر أن يصب عليه من ماء الإبريق ليغسل الشعر الملتصق بفروة رأسه المتسخة بسبب تراكم الأوساخ، وما إن تحول لون الماء إلى الأحمر القاني، صرخت الأم وقالت: "دخيلك، لا تحفّه بالكامل!" فابتسم الفقيه ووضع الموسى على حجر بجانبه، وطلب من أم "غبران" أن تسقيه ماءً، وقال: "دعه يتنفس قليلاً، إذا كان قمله قد هرب." وتوقف "طينان" عن البكاء، ومسح دموعه، واقترب الفقيه من الزوج وقال: "زوجتك تقول لا تحفّه بالكامل، وكأنني أقوم بتطهير حيوان!" فرد الزوج: "لا تغضبها، فهي امرأة كبيرة ولها رأيها، ابتعد قبل أن تقع في مشكلة معها." فقامت الأم ورفعت ثوبها من عند خصرها وثبّتته في سروالها، وأمسكت بطشت الحلاقة، ورشت الماء من حولهم. تعجب الحلاق وقال: "ما هذا التصرف؟ كدت تخلطيننا بالدماء والقمل!" فردت الأم: "احمد ربك أن الطشت لم يكن مليئاً بالجمر، واحرق لحيتك المنتفخة كقرون إبليس!" فقال الفقيه: "لا تلومها، فهي لا تزال تعيش في عالم الخيال، وطاقتها لا تزال في أوجها." ثم تناول أدواته وهرب، ليتمكن من إكمال حلق رأس الولد، فقال الأب: "الله لا يقويك ولا يقويها، هيا أكمل له الحلاقة." فاستلقى الأب على ظهره يضحك، واقترب منه الفقيه وقال: "سأتعلم الحلاقة على رأسك، ولا أجلس أشكر "دبران" الذي لا نذكره بخير، تسبّب بفتنة بيني وبين أمك."
سأل "غبران" والده: "ما الذي يعجبك في الفقيه يا أبي؟" فأجابه: "الرجال لا ينتقدون الرجال، فالرجال ليسوا سلعة تتباهى بها، والرجل الوفي لا يقلل من شأن أحد من جماعته. فالبشر مثل الحجارة التي تبني بها بيتك، فالحجر الذي لا يصلح للواجهة، يصلح للظهر، والذي لا يستقر في المنتصف، تضعه في الطرف، والذي يختلف عن إخوانه تعدل حرفه حتى يتساوى معهم، والذي لا يثبت في مكانه تضعه كحجر صغير يسد الفراغ، والذي لا يصلح للبناء تضعه ليدعم البناء."
كان "أبو غبران" كريماً وسخياً، وكان يقسم على كل من يمر بالطريق الذي يفصل بينه وبين ساحته، وهو عبارة عن حجر صغير لا يزيد على نصف متر، بأن يتفضل عنده ويشرب فنجان قهوة، مع العلم أنه لا يملك دلة ولا إبريقاً. كان يرى ذلك كرمًا مجانياً، ويفرح بمن يمر به؛ فهذا يزوده بخبر جديد، وذاك يسمعه قصيدة. ساحته المتواضعة تتحول في موسم الحصاد إلى مساحة لتجفيف حزم القمح، وفي وقت الدراسة تصبح مكاناً مشمساً للطلاب، وملجأ لمن يريدون الانفراد بأنفسهم بعيداً عن الآخرين، وفي الأفراح تتحول إلى ميدان للعرضة، وكانت تتسع لضيوف العرضة القادمين من كل القرى على أنغام "زير بن نصيب" التي تسري في الوديان، وتستحضر بنغماتها شعراء الجن مكتفين.
أقبل المؤذن مع بزوغ الشمس، يحمل دلة قهوة وصحن تمر "صفري" يابس، وقال لأبي غبران: "لا يهنأ لي شرب القهوة وحدي، وأنت يا صاحب الكرم والجود، جار وصاحب نخوة!" فتبسّم أبو غبران، وفرد عباءته، وقال: "ليست هذه عادتك يا "ديكان"، ولكن ما الأمر؟" تردد المؤذن وقال بعدما تنحنح: "ليس لنا إلا بعضنا يا رفيقي، أريد أن أضم ثوري إلى ثورك للحرث، فثوري وحده لا يكفيني، فلنتعاون، وعلي قسم لن نفكهم حتى ننتهي من حرث أرضي وأرضك." فضحك أبو غبران وقال: "صدقت، لم تأتِ بقهوتك وتمرك لوجه الله، ولكن ثوري مهذب، وثورك نطّاح." فتمسك المؤذن بلحيته، وأقسم يميناً بأنه لن يسمح له بالاحتكاك به، وكانت زوجة المؤذن تبذر خلفه الذرة، وهو ممسك بقبعة اللومة ويغني: "يا الله اليوم يا والي، يا الذي في السما عالي، أنت ذا تعلم الحالي، واحد ما قفل بابه، قدرته تنبت الحبا، يابس يوم نذرا به." ومع آخر خط في الحقل، تشاجر الثيران.
طلب أبو غبران من زوجته أن تساعده في فك المقرنة، وتدلى من البئر ليسقي كلاً منهما على حدة. لحق ثور المؤذن ثور أبي غبران، ونطحه؛ فسقط الثور وقرون البئر في الحفرة المجاورة، وعلق في شجيرات العوسج؛ وصاح الصائح: "النجدة يا أهل الشهامة!" فقفز أبو غبران وطلب من زوجته خنجره، فسألته: "ماذا دهاك؟" قال: "ثوري يهاجمونه!" ربطوه بالحبال، وسحبوه، وخرج ملطخاً بالوحل والعوسج، فقال الفقيه: "اذبحوه لئلا يحتضر." وتناول خنجر أبي غبران؛ وذبح الثور؛ واختلطت أنفاس الثور المذبوح بأنفاس صاحبه الحزينة.
قال الشاعر: "الثور بمئة ريال، عليك يا رفيق خمسين، وعلى جماعتك خمسين، والأرض لأهلها." فأقسم المؤذن أن يتحمل بمفرده نصف قيمته، ويشرك رفيقه في ثوره. وزعوا لحم الثور على جميع البيوت، وأمضى أبو غبران ليلته ساهراً، يقصّد في ثوره: "نزيت وبغت تنكسر كفي ورجلي، يا الله لا تأمر بشرّا، وبعض الجماعة قال ميدي ليته أشكل، من يقل ياخي عليّه، ديكان خان العهد ذا بيني وبينه، منين لي يا ناس ثورا مثل ثوري."
قالت زوجته: "اهدأ عنا، كل هذا بسبب عنادك ورأسك اليابس." ثم استدركت وقالت: "بسبب هواك جاءنا ما كنا نتوقعه، لقد جلبته علينا." فحدق فيها أبو غبران، وطلب منها أن تطفئ المصباح، ودخل تحت الغطاء يرتجف وهو يردد: "هُفّ ولا تُحّف".
في صباح يوم خميس مشرق، طلب الفقيه "يحسّن" ليحلق رأس "طينان". أمر الأب ابنه الأكبر "غبران" أن يحلق رأس أخيه "طينان" قبل وصول الفقيه، وأمره بالإسراع؛ لأن موسى الفقيه حادة. قبل أن يضع "غبران" مسحوق التنظيف على رأسه، بلله بالماء. انفجر "طينان" بالبكاء، تارة يتعلل بألم رقبته التي ضغط عليها أخوه ليثبته، وتارة بسبب الصابون الذي أحرق عينيه. توسلت الأم إلى الأب أن يترك شعر "طينان" ليحميه من البرد، لكنه لم يعرها اهتماماً، واعتلى طرف عتبة الدرجة، وأمسك بخريطة التنباك، وبدأ بتنظيفها.
أقبل الفقيه وقد شمّر عن ساعديه، فهو لم يكن فقيهاً فحسب، بل كان أيضاً حلاقاً ومطهراً، وقد نال احتراماً ومكانة بين الناس. بعد أن مرر الموسى على الشعر الكثيف، قال: "ما أكثر الرعية في رأس ولدك، وكأنه أرض خصبة للزرع!" ثم أضاف: "أين أمه عنه؟ لماذا لا تمشط شعره وتزيل عنه القمل؟" رد الأب: "ماذا ستمشط وماذا ستترك؟ كل قملة في رأس الولد أصبحت عشيرة تتكاثر باستمرار، فربك يبارك في كل شيء."
طلب الفقيه من الأخ الأكبر أن يصب عليه من ماء الإبريق ليغسل الشعر الملتصق بفروة رأسه المتسخة بسبب تراكم الأوساخ، وما إن تحول لون الماء إلى الأحمر القاني، صرخت الأم وقالت: "دخيلك، لا تحفّه بالكامل!" فابتسم الفقيه ووضع الموسى على حجر بجانبه، وطلب من أم "غبران" أن تسقيه ماءً، وقال: "دعه يتنفس قليلاً، إذا كان قمله قد هرب." وتوقف "طينان" عن البكاء، ومسح دموعه، واقترب الفقيه من الزوج وقال: "زوجتك تقول لا تحفّه بالكامل، وكأنني أقوم بتطهير حيوان!" فرد الزوج: "لا تغضبها، فهي امرأة كبيرة ولها رأيها، ابتعد قبل أن تقع في مشكلة معها." فقامت الأم ورفعت ثوبها من عند خصرها وثبّتته في سروالها، وأمسكت بطشت الحلاقة، ورشت الماء من حولهم. تعجب الحلاق وقال: "ما هذا التصرف؟ كدت تخلطيننا بالدماء والقمل!" فردت الأم: "احمد ربك أن الطشت لم يكن مليئاً بالجمر، واحرق لحيتك المنتفخة كقرون إبليس!" فقال الفقيه: "لا تلومها، فهي لا تزال تعيش في عالم الخيال، وطاقتها لا تزال في أوجها." ثم تناول أدواته وهرب، ليتمكن من إكمال حلق رأس الولد، فقال الأب: "الله لا يقويك ولا يقويها، هيا أكمل له الحلاقة." فاستلقى الأب على ظهره يضحك، واقترب منه الفقيه وقال: "سأتعلم الحلاقة على رأسك، ولا أجلس أشكر "دبران" الذي لا نذكره بخير، تسبّب بفتنة بيني وبين أمك."
سأل "غبران" والده: "ما الذي يعجبك في الفقيه يا أبي؟" فأجابه: "الرجال لا ينتقدون الرجال، فالرجال ليسوا سلعة تتباهى بها، والرجل الوفي لا يقلل من شأن أحد من جماعته. فالبشر مثل الحجارة التي تبني بها بيتك، فالحجر الذي لا يصلح للواجهة، يصلح للظهر، والذي لا يستقر في المنتصف، تضعه في الطرف، والذي يختلف عن إخوانه تعدل حرفه حتى يتساوى معهم، والذي لا يثبت في مكانه تضعه كحجر صغير يسد الفراغ، والذي لا يصلح للبناء تضعه ليدعم البناء."
كان "أبو غبران" كريماً وسخياً، وكان يقسم على كل من يمر بالطريق الذي يفصل بينه وبين ساحته، وهو عبارة عن حجر صغير لا يزيد على نصف متر، بأن يتفضل عنده ويشرب فنجان قهوة، مع العلم أنه لا يملك دلة ولا إبريقاً. كان يرى ذلك كرمًا مجانياً، ويفرح بمن يمر به؛ فهذا يزوده بخبر جديد، وذاك يسمعه قصيدة. ساحته المتواضعة تتحول في موسم الحصاد إلى مساحة لتجفيف حزم القمح، وفي وقت الدراسة تصبح مكاناً مشمساً للطلاب، وملجأ لمن يريدون الانفراد بأنفسهم بعيداً عن الآخرين، وفي الأفراح تتحول إلى ميدان للعرضة، وكانت تتسع لضيوف العرضة القادمين من كل القرى على أنغام "زير بن نصيب" التي تسري في الوديان، وتستحضر بنغماتها شعراء الجن مكتفين.
أقبل المؤذن مع بزوغ الشمس، يحمل دلة قهوة وصحن تمر "صفري" يابس، وقال لأبي غبران: "لا يهنأ لي شرب القهوة وحدي، وأنت يا صاحب الكرم والجود، جار وصاحب نخوة!" فتبسّم أبو غبران، وفرد عباءته، وقال: "ليست هذه عادتك يا "ديكان"، ولكن ما الأمر؟" تردد المؤذن وقال بعدما تنحنح: "ليس لنا إلا بعضنا يا رفيقي، أريد أن أضم ثوري إلى ثورك للحرث، فثوري وحده لا يكفيني، فلنتعاون، وعلي قسم لن نفكهم حتى ننتهي من حرث أرضي وأرضك." فضحك أبو غبران وقال: "صدقت، لم تأتِ بقهوتك وتمرك لوجه الله، ولكن ثوري مهذب، وثورك نطّاح." فتمسك المؤذن بلحيته، وأقسم يميناً بأنه لن يسمح له بالاحتكاك به، وكانت زوجة المؤذن تبذر خلفه الذرة، وهو ممسك بقبعة اللومة ويغني: "يا الله اليوم يا والي، يا الذي في السما عالي، أنت ذا تعلم الحالي، واحد ما قفل بابه، قدرته تنبت الحبا، يابس يوم نذرا به." ومع آخر خط في الحقل، تشاجر الثيران.
طلب أبو غبران من زوجته أن تساعده في فك المقرنة، وتدلى من البئر ليسقي كلاً منهما على حدة. لحق ثور المؤذن ثور أبي غبران، ونطحه؛ فسقط الثور وقرون البئر في الحفرة المجاورة، وعلق في شجيرات العوسج؛ وصاح الصائح: "النجدة يا أهل الشهامة!" فقفز أبو غبران وطلب من زوجته خنجره، فسألته: "ماذا دهاك؟" قال: "ثوري يهاجمونه!" ربطوه بالحبال، وسحبوه، وخرج ملطخاً بالوحل والعوسج، فقال الفقيه: "اذبحوه لئلا يحتضر." وتناول خنجر أبي غبران؛ وذبح الثور؛ واختلطت أنفاس الثور المذبوح بأنفاس صاحبه الحزينة.
قال الشاعر: "الثور بمئة ريال، عليك يا رفيق خمسين، وعلى جماعتك خمسين، والأرض لأهلها." فأقسم المؤذن أن يتحمل بمفرده نصف قيمته، ويشرك رفيقه في ثوره. وزعوا لحم الثور على جميع البيوت، وأمضى أبو غبران ليلته ساهراً، يقصّد في ثوره: "نزيت وبغت تنكسر كفي ورجلي، يا الله لا تأمر بشرّا، وبعض الجماعة قال ميدي ليته أشكل، من يقل ياخي عليّه، ديكان خان العهد ذا بيني وبينه، منين لي يا ناس ثورا مثل ثوري."
قالت زوجته: "اهدأ عنا، كل هذا بسبب عنادك ورأسك اليابس." ثم استدركت وقالت: "بسبب هواك جاءنا ما كنا نتوقعه، لقد جلبته علينا." فحدق فيها أبو غبران، وطلب منها أن تطفئ المصباح، ودخل تحت الغطاء يرتجف وهو يردد: "هُفّ ولا تُحّف".
